سورة لقمان - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (لقمان)


        


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي لمن يجادلُ، والجمعُ باعتبار المعنى {اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا} يُريدون به عبادةَ الأصنامِ {أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ} أي آباءَهم لا أنفسَهم كما قيل: فإنَّ مدارَ إنكارِ الاتباعِ واستبعادِه كونُ المتبوعينَ تابعينَ للشَّيطانِ لا كونُ أنفسِهم كذلك، أي أيتبعونَهم ولو كان الشَّيطانُ يدعُوهم فيما هم عليه من الشِّرك {إلى عَذَابِ السعير} فهُم متوجهون إليه حسبَ دعوتِه، والجملةُ في حيِّز النَّصبِ على الحاليَّةِ وقد مرَّ تحقيقُه في قولِه تعالى: {أَوْ لَّوْ كَانَ آبَاؤُهم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} من سُورة البقرةِ بما لا مزيدَ عليهِ {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله} بأنْ فوَّض إليه مجامعَ أمورِه وأقبلَ عليه بكلّيته، وحيثُ عُدِّي باللامِ قصد معنى الاختصاصِ. وقرئ بالتَّشديدِ. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي في أعمالِه آتٍ بها جامعةً بين الحُسنِ الذاتِيِّ والوصفيِّ وقد مرَّ في آخرِ سورةِ النَّحلِ {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} أي تعلَّق بأوثقِ ما يتعلَّق به من الأسبابِ وهو تمثيلٌ لحالِ المتوكلِ المشتغلِ بالطَّاعةِ بحالِ من أراد أنْ يترقَّى إلى شاهقِ جبلٍ فتمسَّك بأوثقِ عُرى الحبلِ المُتدلِّي منه {وإلى الله} لا إلى أحدٍ غيرِه {عاقبة الامور} فيجازيه أحسنَ الجزاء. {وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ} فإنَّه لا يضُّرك في الدُّنيا ولا في الآخرةِ. وقرئ: {فلا يُحزِنك} من أحزَن المنقولِ من حَزِن بكسرِ الزَّاي وليس بمستفيضٍ {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} لا إلى غيرِنا {فَنُنَبّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ} في الدُّنيا من الكفرِ والمَعَاصي بالعذابِ والعقابِ. والجمعُ في الضَّمائرِ الثَّلاثةِ باعتبارِ معنى مَن كما أنَّ الإفرادَ في الأولِ باعتبارِ لفظِها {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} تعليلٌ للتنبئةِ المعبَّرِ بها عن التَّعذيبِ {نُمَتّعُهُمْ قَلِيلاً} تمتيعاً أو زماناً قليلاً فإنَّ ما يزول وإنْ كانَ بعد أمدٍ طويلٍ بالنسبةِ إلى ما يدومُ قليلٌ {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ} يثقُل عليهم ثقلَ الأجرامِ الغلاظِ أو يضمُّ إلى الإحراقِ الضَّغطَ والتضييق.


{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله} لغايةِ وضوحِ الأمرِ بحيث اضطروا إلى الاعترافِ به {قُلِ الحمد لِلَّهِ} على أنْ جعلَ دلائلَ التَّوحيدِ بحيثُ لا يكادُ ينكرها المكابرون أيضاً {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} شيئاً من الأشياءِ فلذلك لا يعملون بمقتضى اعترافِهم وقيل: لا يعلمون أنَّ ذلك يلزمُهم {للَّهِ مَا فِى السموات والارض} فلا يستحقُّ العبادةَ فيهما غيرُه. {إِنَّ الله هُوَ الغنى} عن العالمينَ {الحميد} المستحقُّ للحمدِ وإنْ لم يحمدْهُ أحدٌ أوالمحمودُ بالفعلِ يحمدُه كلُّ مخلوقٍ بلسانِ الحالِ {وَلَوْ أَنَّ مَّا فِى الارض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} أي لو أن الأشجارَ أقلامٌ وتوحيدُ الشَّجرةِ لما أنَّ المراد تفصيلُ الآحادِ {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ} أي من بعدِ نفاده {سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} أي والحالُ أنَّ البحرَ المحيطَ بسعته يمدُّه الأبحرُ السبعةُ مدَّاً لا ينقطعُ أبداً وكتبتْ بتلك الأقلامِ وبذلك المدادِ كلماتُ الله {مَا نَفِدَتْ كلمات الله} ونفدِتْ تلك الأقلامُ والمدادُ كما في قوله تعالى: {لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى} وقرئ: {يُمدُّه} من الإمدادِ بالياء والتاءِ. وإسنادُ المدِّ إلى الأبحرِ السَّبعةِ دونَ البحرِ المحيطِ مع كونِه أعظمَ منها وأطمَّ لأنَّها هي المجاورةُ للجبالِ ومنابعِ المياه الجاريةِ وإليها تنصبُّ الأنهارُ العظامُ أولاً ومنها ينصبُّ إلى البحرِ المحيطِ ثانياً. وإيثارُ جمعِ القلَّةِ في الكلماتِ للإيذانِ بأنَّ ما ذُكر لا يَفي بالقليلِ منها فكيفَ بالكثيرِ {أَنَّ الله عَزِيزٌ} لا يُعجزه شيءٌ {حَكِيمٌ} لا يخرجُ عن علمِه وحكمتِه أمرٌ فلا تنفذُ كلماتُه المؤسسةُ عليهما {مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة} أي إلا كخلقِها وبعِثها في سهولةِ التَّأنِّي إذ لا يشغلُه شأنٌّ عن شأنٍ لأن مناطَ وجودِ الكلِّ تعلقُ إرادتِه الواجبةِ مع قدرتِه الذاتيَّةِ حسبما يفصحُ عنه قولُه تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {إِنَّ الله سَمِيعٌ} يسمعُ كلَّ مسموعٍ {بَصِيرٌ} يبصرُ كلَّ مبصَرٍ لا يشغلُه علمُ بعضِها عن علمِ بعضٍ فكذلك الخلقُ والبعثُ.
{أَلَمْ تَرَ} قيل: الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وقيل: عامٌّ لكلِّ أحدٍ ممّن يصلحُ للخطابِ وهو الأوفقُ لما سبقَ وما لحقَ أي ألم تعلم علماً قويَّاً جارياً مجرى الرؤيةِ {أَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى الليل} أي يُدخل كلَّ واحدٍ منهما في الآخرِ ويضيفه إليه فيتفاوتُ بذلك حالُه زيادةً ونقصاناً {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} عطفٌ على يُولج والاختلافُ بينهما صيغة لما أنُّ إيلاجَ أحد المَلَوين في الآخرِ متجددٌ في كلِّ حينٍ، وأما تسخيرُ النَّيِّرينِ فأمرٌ لا تعددَ فيه ولا تجددَ وإنَّما التعدُّدُ والتجدّد في آثارِه وقد أُشير إلى ذلك حيثُ قيل {كُلٌّ يَجْرِى} أي يحسبِ حركتِه الخاصَّة وحركتِه القسريةِ على المداراتِ اليوميةِ المتخالفةِ المتعددةِ حسب تعددِ الأيَّامِ جريا مستمراً {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} قدَّره الله تعالى لجريهما وهو يوم القيامةِ كما رُوي عن الحسنِ رحمه الله: فإنَّه لا ينقطعُ جريُهما إلا حينئذٍ والجملةُ على تقدير عمومِ الخطاب اعتراضٌ بين المعطوفينِ لبيانِ الواقعِ بطرقِ الاستطرادِ، وعلى تقديرِ اختصاصِه به عليه الصَّلاة والسَّلام يجوزُ أن يكونَ حالاً من الشَّمسِ والقمرِ فإنَّ جريانَهما إلى يومِ القيامةِ من جُملةِ ما في حيِّز رؤيتِه عليه الصَّلاة والسَّلامُ هذا وقد جُعل جريانُهما عبارةً عن حركتِهما الخاصَّة بهما في فلكِهما والأجلُ المسمَّى عن منتهى دورتِهما وجُعل مَّدةُ الجريانِ للشمسِ سنة وللقمرِ شهراً فالجملةُ حينئذٍ بيان لحكمِ تسخيرِهما وتنبيهٌ على كيفيَّةِ إيلاجٍ أحدٍ المَلَوين في الآخرِ وكونِ ذلك بحسبِ اختلافٍ جَرَيانِ الشَّمسِ على مَدَاراتِها اليوميَّةِ فكُلما كان جريانُها متوجهاً إلى سمتِ الرَّأسِ تزدادُ القوسُ التي هي فوق الأرضِ كبراً فيزدادُ النَّهارُ طُولاً بإنضمامِ بعضِ أجزاءِ الليلِ إليهِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أقربُ المداراتِ إلى سمتِ الرَّأسِ وذلك عند بلوغِها رأسِ السَّرطانِ ثم ترجعُ متوجهةً إلى التباعدِ عن سمتِ الرَّأسِ قلا تزال القِسيُّ التي هي فوقَ الأرضِ تزدادُ صغراً فيزدادُ النَّهارُ قِصراً بانضمامِ بعضِ أجزائِه إلى اللَّيلِ إلى أنْ يبلغَ المدارَ الذي هو أبعدُ المداراتِ اليوميةِ عن سمتِ الرأسِ وذلك عندَ بلوغِها برجَ الجَدي.
وقولُه تعالى {وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} عطفٌ على أنَّ الله يُولج إلخ داخلٌ معه في حيِّز الرؤيةِ على تقديري خصوصِ الخطابِ وعمومه فإنَّ مَن شاهدَ مثلَ ذلك الصُّنعِ الرَّائقِ والتَّدبيرِ الفائقَ لا يكادُ يغفلُ عن كونِ صانعِه عزَّ وجلَّ محيطاً بجلائلِ أعمالِه ودقائقِها.


{ذلك} إشارةٌ إلى ما تُلي من الآياتِ الكريمةِ، وما فيهِ من مَعْنى البعدِ للإيذانِ ببُعد منزلتِها في الفضلِ وهُو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى {بِأَنَّ الله هُوَ الحق} أي بسببِ بيانِ أنَّه تعالى هو الحقُّ إلهيَّته فقط ولأجلِه لكونِها ناطقةً بحقيةِ التَّوحيدِ {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل} أي ولأجلِ بيانِ بطلانِ آلهيّةِ ما يدعونَه من دونِه تعالى لكونِه شاهدةً بذلك شهادةً بينةً لا ريبَ فيها. وقرئ بالتَّاءِ والتَّصريحُ بذلك مع أنَّ الدِّلالةَ على اختصاصِ حقَّيةِ الإلهيةِ به تعالى مستتبعةٌ للدِّلالةِ على بُطلانِ إلهيّةٍ ما عداهُ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بأمرِ التَّوحيدِ وللإيذانِ بأنَّ الدِّلالةَ على بُطلانِ ما ذُكر ليستْ بطريقِ الاستتباعِ فقط بلْ بطريقِ الاستقلالِ أيضاً. {وَأَنَّ الله هُوَ العلى الكبير} أي وبيانُ أنَّه تعالى هو المترفعُ عن كلِّ شيءٍ المتسلطُ عليه فإنَّ ما في تضاعيفِ الآياتِ الكريمةِ مبيِّنٌ لاختصاصِ العلوِّ والكبرياءِ به تعالى أيّ بيانٍ. هذا وقيل: ذلك أيْ ما ذُكر من سَعةِ العلمِ وشمولِ القُدرةِ وعجائبِ الصُّنعِ تعالى واختصاصِ البارِي تعالى بِه بسببِ أنَّه الثَّابتُ في ذاتِه الواجبُ من جميَعِ جهاتِه أَو الثابتُ إلهيّتُه، وأنتَ خبيرٌ بأنَّ حقَّيته تعالى وعلوَّه وكبرياءَهُ وإنْ كانتْ صالحةً لمناطيةِ ما ذُكر من الأحكامِ المعدودةِ لكنّ بطلانَ إلهية الأصنامِ لا دخلَ له في المناطيَّةِ قطعاً فلا مساغَ لنظمِه في سلكِ الأسبابِ بل هو تعكيسٌ للأمرِ ضرورةَ أنَّ الأحكامَ المذكورةَ هي المقتضيةُ لبطلانِها لا أنَّ بطلانَها يقتضيها.

1 | 2 | 3 | 4